تاريخ الفكر الاجتماعي في العصر المسيحي
بعد انتقال المسيحية إلى الغرب غدة ديانة الإمبراطورية الرومانية، ولكنها تحولت عن جوهرها الحقيقي، فتطبعت بالطابع المادي للحضارة اليونانية/الرومانية.
النصرانية عندما دخلت روما لم تتنصر روما ، ولكن المسيحية هي التي ترومت ، وما كان لها أن تعيش في الغرب لولا ما ساندها من القوانين الرومانية، والأنظمة التي فرضتها ليعيش الناس تحت لوائها، وكذلك "لولا القلق الذي أوجده تفكك الإمبراطورية الرومانية، لما أتيح لها أن تنتشر على النحو الذي انتشرت به في أوروبا"
انتهى عصر اللآلهة و الكهنة و بدأ عصر جديد , دين جديد و منهجية جديدة قديمة طبعت ووجهت تفكير العالم لقرون قبل ان يتخلى الناس عنها و يفصلوها عن الحكم و يضعوا لها اطار تتحرك فيه و لا تخرج الا عند الحاجة
ما ان اكتشف الاباطرة ما بيديهم من سلطة الكنيسة لم يتوانوا عن استخدامها لذا لم يتوانى قسطنطين عن الاعتراف بالمسيحية دين ضمن الامبراطورية و ما تلاه من كون الامبراطورية ضمن المسيحية .
و يمكن ايجاز مراحل تطور الفكر الاجتماعي المسيحي كالتالي
- نهاية عصر الفلسفة اليونانية وبداية الفكر اللاهوتي المسيحي في العصور الوسطى
- عصر الآباء (اوغسطين و آخرين )
- عصر الفلسفة المدرسية (توما الاكويني وآخرين )
أولا ً : نهاية عصر الفلسفة اليونانية وبداية الفكر اللاهوتي المسيحي في العصور الوسطى
إن المأثرة التاريخية للمسيحية فيما يتعلق بتطور الفكر الإنساني، أنها أقرت لأول مرة في تاريخ الفكر القديم، بأن العبد ليس أداة إنتاج، كما كان يؤكد ذلك فلاسفة النظام العبودي مثل ارسطو، وإنما هو إنسان شأنه في ذلك شأن السيد. هذا أولاً. وثانياً، ولأول مرة أيضاً في التاريخ القديم تحدثت المسيحية عن المساواة بين الناس، وإن لم يكن على الأرض، وإنما في السماء. وهذا ما أعطى العبد أو المنتج الحقيقي، الحلم بالمساواة، ليس فقط في السماء، وإنما على الأرض. و هو ما يفسر شراسة الأسياد في محاربتهم للمسيحية و كرد فعل على ذلك الاستماتة في الدفاع عن المسيحية من قبل المؤمنين . مع أن اختفاء العبودية لم يكن بالسرعة التي بدأ بالحديث عنها و لكن الواقع الجديد افرد نظاما ً اجتماعياً جديدا ً بدأ بالتكشف و الظهور
ثانيا ً: عصر الآباء (اوغسطين و آخرين )
اوغسطين
هو فيلسوف وقديس وهو أحد أهم آباء الكنيسة ومعلِّميها
في عام 389 رجع اوغسطين إلى تاغاست وتفرَّغ للدرس والتأمل. في عام 391 ترسم وفي عام 397 اصبح أسقفاً على مدينة هيبون، في زمن كانت فيه الفوضى السياسية، والمنازعات اللاهوتية حيث كان البرابرة يهدّدون حدود الإمبراطورية ، وكانت الكنيسة مهدّدة بالانقسام بسبب كثرة البدع
جاهد أغسطينوس بكل قواه لمحاربة المانوية والدوناتية والبيلاجية وهذا كان دافع له لكي يخرج تعليمه الخاص بالخطية الأصلية،و الخلاص بالنعمة الإلهية وبالاختيار المسبق.
حاول أغسطينوس أنه يوجد حل وسط بين البيلاجية والمانوية فأكد وجود الخطية في الإنسان، وضرورة تدخُّل نعمة الله من أجل الخلاص، لكنه لم ينفِ دور إرادة الإنسان الحرَّة في قبول النعمة
من أعماله العديدة نذكر أهمها
اعترافات :وهي عبارة عن مذكرات شخصية بها أفكار فلسفية. يرسم فيها أغسطينوس الطريق العقلاني الذي يقود الإنسان إلى الاعتراف بالحقيقة الحاضرة في أعماق كيانهِ، هذه الحقيقة هي الله ذاته
ـ مدينة الله (412 ـ 426): أحد أهم المؤلفات في تاريخ الفلسفة المسيحية؛ وهو عبارة عن مؤَلَّف دفاعي، يقارن بين الحضارة المسيحية، و الوثنية وقد كتب أغسطينوس في هذا المؤلَّف نظرتهُ اللاهوتية إلى تطور الحضارة الإنسانيةالتي يعتبرها "التحقيق في الزمن لمخطط العناية الإلهية". يضم هذا العمل 22 كتاب: العشرة الأولى هي نقد لتعدُّد الآلهة، أما الباقي فيبحث في نشوء وتطور الكنيسة .
و يمكن اعتبار المساهمة للقديس اغسطينوس في الفكر الاجتماعي الانساني في نقطتين
- التنظير الميتافيزيقي في مجال الوجود والنفس والمعرفة
- التنظير السياسي في مجال دولة الله فلسفة التاريخ
أي بدأ البناء العقائدي للشخصية المسيحية و تنقيتها من شوائب الوثنية بناء العقيدة على أسس عقلية مقدما ًلها تبريراً فلسفياً
الحقه بتأمل سياسي اقرب ما يكون لفلسفة التاريخ من خلال ( نظرية العناية الإلهية ) . إذ تشير نظرية العناية الإلهية إلى إن التاريخ مسرحية ألفها الله ويمثلها الإنسان .
ثالثا ً : عصر الفلسفة المدرسية (توما الاكويني وآخرين )
توما الاكويني
وهو من أكبر فلاسفة اللاهوت المسيحي إن لم يكن أكبرهم على الإطلاق،
كان "الأكويني" من شراح "أرسطو" وقد تأثر إلى حد كبير بآراء ابن رشد في مسألة ترتيب العلاقة بين الدين والفلسفة فضلا عن أخذه برأيه في مسألة العقل والنفس، كما هو معروف عند المختصين. وما يهمنا إبرازه هنا هو أن "الأكويني" تبنى وجهة النظر "الأرسطية" في أصل الاجتماع ومنشأ الدولة فقرر أن الاجتماع الإنساني أمر طبيعي كاجتماع النمل والنحل، مع هذا الفارق وهو أن الاجتماع الحيواني يخضع للغريزة، أما الاجتماع الإنساني فيقوم على الإرادة ويدبره العقل، وبالتالي فهو اجتماع تعاقد لا اجتماع فطرة وغريزة (ساهم في تغذية نظرية العقد الاجتماعي) .
يقرر "توما الأكويني" أن سلطة الحاكم، وبالتالي الدولة، ليست نتيجة تدخل مباشر من السبب الأول (الله) بل هي ترجع إلى القوانين الطبيعية التي بفعلها تم الاجتماع ونصبت الدولة، ولا يكون حكم الحاكم مشروعا إلا إذا كان متوافقا مع القوانين الطبيعية أي مع العقل، لأن العقل ليس شيئا آخر غير إدراك الأسباب كما يقول "أرسطو" وكرر ذلك ابن رشد مرارا وتكرارا. فبدون الاهتداء بالعقل والعمل بموجب قوانينه، التي هي من قوانين الطبيعة التي خطتها الإرادة الإلهية، تكون سلطة الأمير ظلماً بينا ًاول من نادى ببطلان السلطان الاوحد للامبراطور و نقله من موقع القداسة لموقع الحساب او على الاقل تلك كانت افكاره.
ذلك أن غاية الاجتماع ليست في حصول الإنسان على المتعة والشهوة بل الغاية منه حصول الفرد البشري على كماله الإنساني
ومهمة الدولة تكمن في مساعدته على ذلك خصوصا فيما لا تطاله قواه الخاصة من الأمور التي تنتمي إلى عالم المادة، بما في ذلك الحياة الاجتماعية ومقتضياتها